فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي كون ذلك من عمل الشيطان كما قال في القصة الأولى {وكذلك سولت لي نفسي} [طه: 96] وقال في هذه {فوسوس إليه الشيطان} [طه: 120].
وفي أن في القصتين نسيانًا لما يجب الحفاظ عليه وتذكره فقال في القصة الأولى {فَنَسِيَ} [طه: 16] وقال في هذه القصة {فنسي ولم نجد له عزمًا}.
وعليه فقوله: {من قبلُ} حُذف ما أضيف إليه {قبلُ}.
وتقديره: من قبل إرسال موسى أو من قبل ما ذكر، فإن بناء {قبلُ} على الضم علامة حذف المضاف إليه ونيّة معناه.
والذي ذكر: إما عهد موسى الذي في قوله تعالى: {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} [طه: 13] وقوله: {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} [طه: 16]؛ وإما عهد الله لبني إسرائيل الذي ذكّرهم به موسى عليه السلام لما رجع إليهم غضبان أسفًا، وهو ما في قوله: {أفطال عليكم العهد} [طه: 86] الآية.
والمراد بالعهد إلى آدم: العهد إليه في الجنّة التي أنسي فيها.
والنسيان: أطلق هنا على إهمال العمل بالعهد عمدًا، كقوله في قصة السامري {فَنَسي}، فيكون عصيانًا، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: {وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} الآية، وقد مضت في سورة الأعراف (20، 21).
وهذا العهد هو المُبيّن في الآية بقوله: {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك} [طه: 117] الآية.
والعزم: الجزم بالفعل وعدم التردد فيه، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه لعسر عمله أو إيثار ضده عليه.
وتقدم قوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق} في سورة البقرة (227).
والمراد هنا: العزم على امتثال الأمر وإلغاءُ ما يحسِّن إليه عدمَ الامتثال، قال تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159]، وقال: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} [الأحقاف: 35]، وهم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وموسى، وداوود، وعيسى عليهم السلام.
واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلًا لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)}.
هذا بيان لجملة {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل} [طه: 115] إلى آخرها، فكان مقتضى الظاهر أن لا يكون معطوفًا بالواو بل أن يكون مفصولًا، فوقوع هذه الجملة معطوفة اهتمام بها لتكون قصة مستقلة فتلفت إليها أذهان السامعين.
فتكون الواو عاطفة قصة آدم على قصة موسى عطفًا على قوله: {وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارًا} [طه: 10]، ويكون التقدير: واذكر إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، وتكون جملة {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل} تذييلًا لقصة هارون مع السامريّ وقوله: {من قبل} أي من قبل هارون.
والمعنى: أنّ هارون لم يكن له عزم في الحفاظ على ما عهد إليه موسى.
وانتهت القصة بذلك التذييل، ثمّ عطف على قصة موسى قصة آدم تبعًا لقوله: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} [طه: 99].
{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ}.
{فَقُلْنَا يا آدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى}.
قصة خلق آدم وسجود الملائكة له وإباء الشيطان من السجود تقدمت في سورة البقرة وسورة الأعراف، فلنقتصر على بيان ما اختصت به هاته السورة من الأفانين والتراكيب.
فقوله: {إن هذا} إشارة إلى الشيطان إشارةً مرادًا منها التحقير، كما حكى الله في سورة الأنبياء (36) من قول المشركين {أهذا الذي يذكر آلهتكم}، وفي سورة الأعراف (22) إن الشيطان لكما عدو عبر عنه باسمه.
وقوله: {عدوٌّ لكَ ولِزَوجِكَ} هو كقوله في الأعراف (22): {وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} فذكرت عداوته لهما جملة هنالك وذكرت تفصيلًا هنا، فابتدىء في ذكر متعلّق عداوته بآدم لأنّ آدم هو منشأ عداوة الشيطان لحسده، ثم أتّبع بذكر زوجه لأنّ عداوته إياها تبع لعداوته آدم زوجها، وكانت عداوته متعلّقة بكليهما لاتحاد علّة العداوة، وهي حسده إياهما على ما وهبهما الله من علم الأسماء الذي هو عنوان الفكر الموصل إلى الهدى وعنوان التعبير عن الضمير الموصل للإرشاد، وكل ذلك مما يبطل عمل الشيطان ويشق عليه في استهوائهما واستهواء ذريتهما، ولأنّ الشيطان رأى نفسه أجدر بالتفضيل على آدم فحنق لما أمر بالسجود لآدم.
قوله: {فَلا يُخرجَنَّكُما من الجنة فتشقى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى} تفريع على الإخبار بعداوة إبليس له ولزوجه: بأن نُهيا نهي تحذير عن أن يتسبب إبليس في خروجهما من الجنة، لأنّ العدوّ لا يروقه صلاح حال عدوه.
ووقع النهي في صورة نهي عن عمل هو من أعمال الشيطان لا مِنْ أعمال آدم كناية عن نهي آدم عن التأثر بوسائل إخراجهما من الجنّة، كما يقال: لا أعرفنّك تفعل كذا، كناية عن: لا تفعل، أي لا تفعل كذا حتى أعرفه منك، وليس المراد النهي عن أن يبلغ إلى المتكلّم خبر فعل المخاطب.
وأسند ترتب الشقاء إلى آدم خاصة دون زوجه إيجازًا، لأنّ في شقاء أحد الزوجين شقاء الآخر لتلازمهما في الكون مع الإيماء إلى أنّ شقاء الذكر أصل شقاء المرأة، مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.
وجملة {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} تعليل للشقاء المترتب على الخروج من الجنّة المنهي عنه، لأنه لما كان ممتعًا في الجنة برفاهية العيش من مأكل وملبس ومشرب واعتدال جوّ مناسب للمزاج كان الخروج منها مقتضيًا فقدان ذلك.
و{تضحى} مضارع ضَحِيَ: كرضي، إذا أصابه حر الشمس في وقت الضحى، ومصدره الضحو، وحر الشمس في ذلك الوقت هو مبدأ شدته، والمعنى: لا يصيبك ما ينافر مزاجك، فالاقتصار على انتفاء الضحو هنا اكتفاء، أي ولا تصردَ، وآدم لم يعرف الجوع والعَرى والظمأ والضحْو بالوجدان، وإنما عرفها بحقائقها ضِمن تعليمه الأسماء كلّها كما تقدّم في سورة البقرة.
وجُمع له في هذا الخبر أصولُ كفاف الإنسان في معيشته إيماء إلى أن الاستكفاء منها سيكون غاية سعي الإنسان في حياته المستقبلة، لأن الأحوال التي تصاحب التكوين تكون إشعارًا بخصائص المكوّن في مقوماته، كما ورد في حديث الإسراء من توفيق النبي صلى الله عليه وسلم لاختيار اللبن على الخَمر فقيل له: لو اخترت الخمر لغَوَتْ أمّتك.
وقد قُرن بين انتفاء الجوع واللباس في قوله: {ألا تجوع فيها ولا تعرى} وقرن بين انتفاء الظمأ وألم الجسم في قوله: {لا تظمأ فيها ولا تضحى} لمناسبة بين الجوع والعَرى، في أن الجوع خلوّ باطن الجسم عما يقيه تألمه وذلك هو الطعام، وأن العري خلوّ ظاهر الجسم عما يقيه تألمه وهو لفح الحر وقرص البرد؛ ولمناسبة بين الظمأ وبين حرارة الشمس في أن الأول ألم حرارة الباطن والثاني ألم حرارة الظاهر.
فهذا اقتضى عدم اقتران ذكر الظمأ والجوع، وعدم اقتران ذكر العري بألم الحر وإن كان مقتضى الظاهر جمع النظيرين في كليهما، إذ جَمْعُ النظائر من أساليب البديع في نظم الكلام بحسب الظاهر لولا أن عرض هنا ما أوجب تفريق النظائر.
ومن هذا القبيل في تفريق النظائر قصة أدبيّة طريفة جرت بين سيف الدولة وبين أبي الطيّب المتنبي ذكرها المعري في معجز أحمد شرحه على ديوان أبي الطيّب إجمالًا، وبسطها الواحدي في شرحه على الديوان.
وهي: أن أبا الطيّب لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي طالعها:
على قَدر أهل العزم تأتي العزائم

قال في أثنائها يصف موقعة بين سيف الدولة والروممِ في ثغر الحَدَث:
وقفتَ ما في الموت شك لواقف ** كأنك في جفن الردَى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ** ووجهك وضّاح وثَغرك باسم

فاستعادها سيف الدولة منه بعد ذلك فلما أنشده هذين البيتين، قال له سيف الدولة: إن صدريْ البيتين لا يلائماننِ عجُزَيْهما وكان ينبغي أن تقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف ** ووجهُك وضّاح وثغرك باسم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ** كأنك في جفن الردى وهو نائم

وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جوادًا للذة ** ولم أتبَطَّنْ كاعبًا ذاتَ خَلْخال

ولم أسْبَأ الزقّ الرويَّ ولم أقل ** لخيليَ كُرّي كَرّة بعد إجفال

ووجه الكلام على ما قال العلماء بالشعر أن يكون عجز البيت الأول للثّاني وعجز البيت الثاني للأول ليستقيم الكلام فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر، ويكون سِباء الخمر للذة مع تبطن الكاعب.
فقال أبو الطيّب: أدام الله عزّ الأمير، إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلمُ منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفةَ الحائك لأن البزاز لا يعرف إلاّ جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله لأنه أخرجه من الغزليّة إلى الثوبية.
وإنما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء.
وأنا لما ذكرت الموت أتبعتُه بذكر الردى لتجانسه ولما كان وجه المهزوم لا يخلو أن يكون عبوسًا وعينه من أن تكون باكية قلت:
ووجهك وضّاح وثغرك باسم

لأجمع بين الأضداد في المعنى.
ومعنى هذا أن امرؤ القيس خالف مقتضى الظاهر في جمع شيئين مشتهري المناسبة فجمع شيئين متناسبين مناسبة دقيقة، وأن أبا الطيّب خالف مقتضى الظاهر من جمع النظيرين ففرقهما لسلوك طريقة أبدع، وهي طريقة الطباق بالتضاد وهو أعرق في صناعة البديع.
وجعلت المنة على آدم بهذه النعم مسوقة في سياق انتفاء أضدادها ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة تحذيرًا منها لكي يتحامى من يسعى إلى إرزائه منها.
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم {وإنك لا تظمأ} بكسر همزة إنّ عطفًا للجملة على الجملة.
وقرأ الباقون {وأنك} بفتح الهمزة عطفًا على ألاّ تجوع عطف المفرد على المفرد، أي إن لك نفي الجوع والعري ونفي الظّمأ والضَحْو.
وقد حصل تأكيد الجميع على القراءتين بإن وبأختها، وبين الأسلوبين تفنّن. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}.
كأن الحق تبارك وتعالى يُعزِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه ما يعانيه من كفر القوم وعنادهم بقوله له: اقبلهم على عِلاَّتهم، فهُمْ أولاد آدم، والعصيان أمر وارد فيهم، وسبق أن عهدنا إلى أبيهم فنسى، فإذا نسى هؤلاء فاقبل منهم فهم أولاد نسَّاي.
لذلك، إذا أوصيتَ أحدًا بعمل شيء فلم يَقُمْ به، فلا تغضب، وارجع الأمر إلى هذه المسألة، والتمس له عُذْرًا.
وقوله: {عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ} [طه: 115] أي: أمرنا ووصَّيْنا ووعظنا، وقلنا كل شيء.
{مِن قَبْلُ} [طه: 115] هذه الكلمة لها دَوْر في القرآن، وقد حسمتْ لنا مواقف عدة، منها قوله هنا عن آدم والمراد: خُذْ لهم أُسْوة من أبيهم الذي كلّفه الله مباشرة، ليس بواسطة رسول الله، وكلّفه بأمر واحد، ثم نهاه أيضًا عن أمر واحد: كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه بأمر واحد، ثم نهاه أيضًا عن أمر واحد: كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه الشجرة، هذا هو التكليف، ومع ذلك نسى آدم ما أُمِر به.
إذن: حينما يأتي التكليف بواسطة رسول، وبأمور كثيرة، فمَنْ نسى من ولد آدم فيجب أنْ نعذره ونلتمس له عذرًا، ولكثرة النيسان في ذرية آدم قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} [طه: 82] بالمبالغة؛ لأن الجميع عُرْضَة للنسيان وعُرْضة للخطأ، فالأمر إذن يحتاج إلى مغفرة كثيرة.
كذلك جاءتْ {من قبل} في قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ الله مِن قَبْلُ} [البقرة: 91].
فكان لها دور ومَغْزى، فلو قال الحق سبحانه: فَلِمَ تقتلون أنبياء الله؟ فحسْب، فربما جرَّأهم على الاعتداء على رسول الله أنْ يقتلوه، أو يفهم منها رسول الله أنه عُرْضة للقتل كما حدث مع سابقيه من الأنبياء. لذلك قيَّدها الحق تبارك وتعالى وجعلها شيئًا من الماضي الذي لن يكون، فهذا شيء حدث من قبل، وليس هذا زمانه.
وقوله: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] أي: نسي العَهْد، هذه واحدة. {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] ليس عنده عزيمة قوية تُعينه على المضيِّ والثبات في الأمر.
فالحق تبارك وتعالى يريد أن يعطينا فكرة بأنه سبحانه حين يأمر بأمْر فيه نفع لك تتهافت عليه، أمّا إذا أمر بشيء يُقيِّد شهواتك تأبَّيْتَ وخالفتَ، ومن هنا احتاج التكليف إلى عزيمة قوية تعينك على المضيّ فيه والثبات عليه، فإنْ أقبلتَ على الأمر الذي يخالف شهوتك نظرتَ فيه وتأملتَ: كيف أنه يعطيك شهوة عاجلة زائلة لكن يعقبها ذلٌّ آجل مستمر، فالعَزْم هنا ألاَّ تغريك الشهوة.
ألا ترى أن الله تعالى سمَّى الرسل أصحاب الدعوات والرسالات الهامة في تاريخ البشرية {أُوْلُواْ العزم} [الأحقاف: 35] لأنهم سيتحملون مشاقَ ومهامَ صعبة تحتاج إلى ثبات وصبر على التكليف.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] أي: عزيمة تدفع إلى الطاعات، وتمنع من المعاصي.
ومسألة نسيان العبد للمنهيات التي يترتب عليها عقاب وعذاب أثارتْ عند الناس مشكلة في القضاء والقدر، فتسمع البعض يقول: ما دام أن الله تعالى كتب عليَّ هذا الفعل فَلِمَ يعاقبني عليه؟
ونعجب لهذه المقولة، ولماذا لم تَقُلْ أيضًا: لماذا يثيبني على هذا الفعل، ما دام قد كتبه عليَّ؟ لماذا توقفتَ في الأولى وبلعْت الأخرى، بالطبع؛ لأن الأولى ليست في صالحك. إذن، عليك أن تتعامل مع ربك معاملة واحدة، وتقيس الأمور بمقياس واحد.
والعهد الذي أخذه الله على آدم أنْ يأكل رَغَدًا من كل نعيم الجنة كما يشاء إلا شجرة واحدة حذَّره من مجرد الاقتراب منها هو وزوجه: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [البقرة: 35].
وهذه المسألة تلفتنا إلى أن المحللات كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى أمّا المحرمات فقليلة معدودة محصورة؛ لذلك حينما يُحدِّثنا الحق سبحانه عن التكليف يقول: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] فالمحرَّمات هي التي يمكن حصرها، أما المحللات فخارجة عن نطاق الحَصْر.
ونلحظ أن الله تعالى حينما يُحذِّرنا من المحرمات لا يُحذِّرنا من مباشرتها، بلْ مِن مجرد الاقتراب منها {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [البقرة: 35] ولم يقُلْ: لا تأكلا منها؛ ليظل الإنسان بعيدًا عن منطقة الخطر ومظنّة الفِعْل.
وحينما يُحدِّثنا ربُّنا عن حدوده التي حدَّهَا لنا يقول في الحدّ المحلَّل: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وفي الحدِّ المحّرم يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ذلك لأن مَنْ حامَ حول الحِمَى يوشك أنْ يقع فيه.